المدينة غير المكتملة
بدأ تطور المدن الرومانية الحديثة أواسط القرن التاسع عشر متبعا نموذج التمدن الغربي. فقد نصت الوثائق التأسيسية التي تبنتها إمارتا مولدوفا وفالاهيا الرومانيتان في عام 1831 على البدء بالتخطيط العمراني لعاصمتي الإمارتين

Diana Baetelu, 08.03.2025, 15:30
بدأ تطور المدن الرومانية الحديثة أواسط القرن التاسع عشر متبعا نموذج التمدن الغربي. فقد نصت الوثائق التأسيسية التي تبنتها إمارتا مولدوفا وفالاهيا الرومانيتان في عام 1831 على البدء بالتخطيط العمراني لعاصمتي الإمارتين من أجل رفع المستوى المعيشي لسكانهما. وكانت بوخارست عاصمة إمارة فالاهيا هي التي انطلقت فيها عملية التخطيط العمراني لتصبح نموذجا للمدن الأخرى في الإمارة التي لم تتوان في السير على منوالها. لذا فليس من المبالغة القول بأن تاريخ العمران لمدينة بوخارست هو إلى حد كبير تاريخ العمران لرومانيا برمتها رغم اختلاف الرؤى والتصورات أو حتى تناقضها في أحيان كثيرة حول الحياة الحضرية بسبب امتزاج العقليات المحافظة مع الأفكار المبتكرة.
كتابات الرحالة الذين زاروا بوخارست في القرن التاسع عشر تفيدنا بأن عاصمة إمارة فالاهيا كانت تحتفظ بالطابع الشرقي بينما كانت تحاول اللحاق بركب المدن الغربية والاستفادة من المكتسبات العصرية وكانت تتطلع إلى تقليد المدن الأوروبية الكبرى واستيعاب الإبداعات العصرية . والجدير بالذكر أن شخصيات بارزة في عالم السياسة والصحافة تولت في تلك الفترة منصب عمدة بوخارست ومن بنيهم أحد رواد ثورة عام 1848 ديمتري بريتيانو والصحفي والسياسي روسيتي والكاتب باربو شتيفانيسكو ديلافرانتشا والسياسي فينتيلا بريتيانو.
ولكن فقط شخصيتين اثنتين يقترن أسماؤهما بالتطور غير المسبوق الذي شهدته بوخارست أثناء توليهما منصب العمدة وهما : رجل القانون والسياسة الليبرالي باكي بروتوبوبيسكو عمدة بوخارست بين عامي 1888 و1891 والسياسي المحافظ ديم دوبريسكو عمدة بوخارست بين عامي 1929 و1934 . وقد تزامنت ولايتهما على رأس بلدية العاصمة مع حكم الملكين كارول الأول وكارول الثاني وساهما في تطبيق رؤى العاهلين عن تحديث العاصمة بحشدهما الموارد اللازمة لتنفيذ تلك المشاريع الكبرى التي شملت إنشاء الشوارع وشبكات المياه والصرف الصحي ووسائل النقل العام بالإضافة إلى تنظيم مجاري نهري دمبوفيتا وكولنتينا.
وبعد عام 1945 طرح النظام الشيوعي عددا من المشاريع العمرانية من أجل تحديث العاصمة . فقد مرت بوخارست في الحقبة الشيوعية بتحولات كبرى كان بعضها إيجابيا وكان البعض الآخر متناقضا تماما مع قواعد التخطيط العمراني. وقد تمددت المدينة عموديا ولكن البناء الأفقي تغلب على البناء العمودي مع زيادة تدفق السكان من المناطق الريفية إلى المدنية على خلفية عملية تصنيع البلاد التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي وزيادة الحاجة إلى العمالة في المصانع والمنشآت الجديدة . كما ترك زعيما رومانيا الاشتراكية غورغي غورغيو ديج زعيم الحزب الشيوعي بين عامي 1947 و1965 ونيكولاي تشاوشيسكو الذي حكم رومانيا بين عامي 1965 و1989 تركا بصمات عميقة على وجه العاصمة الرومانية. يقول المؤرخون أنه لا يمكن اعتبار بناء أي مدينة عملية مكتملة لأن المدينة تتغير بتغير سكانها عبر الزمن.
تشيزار بويوماتشي المؤرخ لدى متحف مدينة بوخارست درس تاريخ التخطيط الحضري وتاريخ المعالم العامة للعاصمة . وقد ألف مؤخرا كتاب “المدينة غير المكتملة” الذي يتناول فيه التحولات الجذرية التي شهدتها العاصمة الرومانية إبان الحقبة الشيوعية بين عامي 1945 و1989: “المدينة غير المكتملة” هو الآخر عمل غير مكتمل بمعنى أن التحولات التي شهدتها المدينة من الكثرة بحيث لا يمكن تضمينها في بحث واحد . لقد بدأت أدرس الموضوع رغبة مني في فهم ما الذي حدث لهذه المدينة لا سيما وأن ما كتب عنها من قبل هو خليط من المعلومات المتفرقة المأخوذة من كتب ومقالات مختلفة لم تتناول الحقبة الشيوعية بشكل موضوعي ولم تضع بعين الاعتبار أن ذكريات الناس تشوهها بعض التأثيرات وخاصة مرور الوقت .”
شهدت بوخارست على مدى المئتين وخمسة وعشرين عاما على إقامتها سلسلة من الأحداث التاريخية التي تركت بصمات عميقة عليها وساهم بعضها في تحولها من بلدة متكظة في أطراف الساحة العثمانية في نهاية القرن السابع عشر إلى ما هي عليه . فقد ضربتها الكوارث منها الطبيعية كالزلازل المدمرة والحرائق والأوبئة ومنها تلك التي صنعها الإنسان كالثورات والحروب والاحتلال الأجنبي وأخيرا عمليات التنظيم العمراني التي أقدم عليها النظام الشيوعي في ثمانينيات القرن العشرين.
حاول تشيزار بويوماتشي تحديد الأسباب التي جعلت من العاصمة الرومانية ما هي عليه ونشر استنتاجاته في كاتبه بعنوان ” المدينة غير المكتملة “:”ماذا حدث لهذه المدينة؟ كيف ظهرت على خريطة بوخارست هذه الأحياء السكنية الكبيرة التي تحيط بالمدينة القديمة؟ حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة لكي أفهم أنا في المقام الأول ما الذي حصل ولأقوم فيم بعد بنشر المعلومات التي حصلت عليها لإفهام الجميع أسباب عدم اكتمال المدينة وما الذي حدث لبوخارست عبر العصور .
المؤرخ رازفان تيودوريسكو كان يعتقد أن بوخارست كان لها ثلاثة مؤسسين وبناة عظماء: هم الملكان كارول الأول وكارول الثاني والزعيم الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو. لكني لا أتفق معه وأقول أن الباني الثالث في التسلسل الآنف ليس تشاوشيسكو بل غوغريو ديج الذي رأس الحزب الشيوعي الروماني قبل تشاوشيكو.المدينة الحالية محاطة بمدن أخرى هي في الواقع أحياء سكنية بحجم مدينة .أما المدينة الحقيقية أي المدينة داخل المدينة – إن شئتم – فقد بنيت في عهد غورغيو ديج وليس تشاوشيكو من قام ببنائها إنما هو من دمرها وفككها إلى غير رجعة. ففي عهد تشاوشيسكو لم ينفذ بشكل كامل أي من المشاريع العمرانة المعتمدة لا حتى مشروع تدمير العاصمة. لذلك أقول إن بوخارست مدينة غير مكتملة .”